الناس موتى وأهل العلم أحياء، والعلماء لا يموتون ولكنهم يرحلون. وفي الذكر الحكيم {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوامنكُمْ وَالَّذِين أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11].
رحل الاستاذ الداعية، والأكاديمي البارز، وأحد فرسان الإسلام في القرن العشرين، والعشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، الأستاذ الكبير الدكتور عبدالصبور شاهين، عن عمر ناهز الثمانين عاما.
عبد الصبور شاهين. . مولده، ونشأته:
ولد الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين عام 1928م بحي الإمام الشافعي، وحفظ القرآن الكريم كاملًا في أحد الكتاتيب ولم يبلغ السابعة من عمره.
وبعد انتهاء دراسته الابتدائية في المدرسة الإلزامية في سن الحادية عشرة التحق بالأزهر الشريف.
وتابع دراسته الجامعية بكلية دار العلوم والتي تخرج منها عام 1955م ثم عمل معيدًا في نفس الكلية ونال شهادة الدكتوراة عن القراءات الشاذة في القرآن الكريم مثل القراءة بالسبع والأربعة عشر.
وقد كان الدكتور عبد الصبور شاهين -رحمه الله- شاهدًا على عصره فعالًا فيه.ويعد واحدًا من رجال الدعوة المميزين، تاركًا بغيابه ثغرةً كبيرةً، أضيفت للثغرات التي تركها الكبارمن قبله، خاصة في السنوات الأخيرة.
كـ الشيخ سيد سابق، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور أحمد العسال، والشيخ الشعراوي، والشيخ عبد الرحمن خليف، والشيخ حسن أيوب، وغير هؤلاء الكثير، رحمهم الله جميعا، وجزاهم عنا وعن الإسلام خيرًا.
لقد كان الدكتور عبد الصبور شاهين من القلائل الذين تصدوا لتيار التغريب، والتكفير الحقيقي، أي إخراج المسلمين من الإسلام عن طريق الشبهات أو الجهل والتشكيك أو مهاجمة العلماء في محاولة للنيل من هيبتهم وقدرهم لدى الناسن.
فكانت كلماتهم وبحوثهم وردودهم ومواقفهم أنوارًا تبدد ظلمات الكفر والتكفير، الذي غفل عنه الكثيرون، والجحود، والانحراف، والشذوذ الفكري، والفهوم السقيمة لصحيح الدين، وأسس العقيدة، بل لأسماء الله وصفاته.
كان الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله خطيبًا مفوهًا، يتمتع بفصاحة اللغوي العارف العالم، وروح الشباب الوثاب، وحجة المتمكن المتبصر المتبحر.
عرفته دار العلوم بجامعة القاهرة أستاذًا بارعًا، وعرفه جامع عمر بن العاص في القاهرة معلمًا راشدًا ومرشدًا، وعرفته جامعة الملك فهد للبترول والمعادن،محاضرًا مخلصًا دقيقًا حريصًا على نشر العلم.
وتعميم المعرفة، وعرفته المكتبة العلمية الإسلامية، كاتبًا متمرسًا شديدًا في الحق لا يخاف في الله لومة لائم، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بأكثر من 70 كتاب.
لقد ترك الدكتور عبد الصبور شاهين، ذكرًا حسنًا، وصدقات جارية، وعلمًا في صدور الرجال، وبطون الكتب، ذخرًا للأجيال القادمة، لذلك هو من الخالدين في هذه الدنيا، ونسأل الله أن يجعلنا وإياه من الخالدين في الفردوس الأعلى مع النبيين، والشهداء، والصديقين، وحسن أولئك رفيقا.
في إحدى اللقاءات معه، أكد الدكتور عبد الصبور شاهين بأنه نذر نفسه للدفاع عن الإسلام، بالدليل والحجة والبرهان، وأنه لا يخشى المعارك الفكرية، بل يهواها، ويستعد لها، أو كما قال رحمه الله: "لقد أوقفت حياتي لخوض المعارك الفكرية الساخنة ضد كل من يحاول النيل من الإسلام، سواء كان داخل مصر أو خارجها"1.
ولقد واجه الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله دعاة العلمانية والعامية، وتفسير القرآن بها، والتخلي عن العربية، وقال عنهم: " هؤلاء الناس غرباء عن مصر، حتى ولو كانوا من بني جلدتنا، وهم يعملون لحساب جهات لا تريد الخير لمصر والعرب، فاللهجة العامية تعجز مفرداتها عن الإحاطة بألفاظ القرآن الكريم، وبالتالي لا تستطيع تفسيره، وليس لها معجم أومعاني منضبطة"2.
كما أكد الدكتور شاهين رحمه الله في الكثيرمن المناسبات بأن اللغة تقوى بقوة أصحابها وتضعف بضعفهم، فإذا أراد العرب أن تكون لغتهم قوية، فليمسكوا بزمام القوة أولًا.
انحياز الدكتور عبد الصبور شاهين لصف الأمة:
لم يكن الدكتور عبد الصبور شاهين مفكرًا يكتب من برج عاجي، بل كان يعيش قضايا أمته، وينحاز لصفها، وكان موقفه رحمه الله واضحًا من احتلال العراق وأفغانستان، حيث قال:
"الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لإقامة إمبراطورية استعمارية تسيطر فيها على ثروات المسلمين، خاصة النفط.
واحتلال أفغانستان والعراق هي الخطوات الأولى لإقامة تلك الإمبراطورية التي يسيطر عليها اليمين الصهيوني "النصراني" كما أن احتلال بلاد المسلمين والرغبة في تفتيت تلك البلاد لكيانات أصغر يهدف إلى تميكن الكيان الصهيوني من السيطرة على المنطقة"3
كانت معارك الدكتور عبد الصبور شاهين ضد فلول الردة قد أثارت عليه بعض الجهلة، المتطاولين على الإسلام، ومع ذلك يرفضون وصمهم بالمرتدين، فزعم البعض "حسن حنفي" بأن هناك تناقضًا في أسماء الله الحسنى مثل: "الرحمن، والجبار، والمنتقم، والعفو، والمهيمن" فكشفت ذلك عن قصور فكري لمن يزعمون الاكتشاف، والذي هو في الحقيقة انكشاف مريع يجسد ظهور بواطنهم على ألسنتهم وما تتخرس به أقلامهم.
ولم يكن في ذلك تناقض، فالرحمة لا تكون سوى من الجبار، والعفو لا يكون سوى من المهيمن، والمنتقم صفة واجبة اللزوم للألوهية. فعفو الجبار على التائب، والرحمة من الرحمان تكون من المنتقم لمن لا يتوب. قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيم} [الحجر:49-50].
فلو كان الله رحيما فقط، لما كانت هناك النار، ولو كان الله منتقما فقط، لما كانت هناك الجنة. فوجود الجنة والنار دليل قاطع على صفات الله وأسمائه في القرآن الكريم، فعدل الله مع الجاحدين الكفرة الانتقام، ومع عباده البررة الرحمة والعفو والمغفرة، وهذا أمر بديهي لدى أصحاب العقول.
يرى الدكتور عبد الصبور شاهين أن "الحروب الصليبية ما تزال تعيش في وعي الغرب وتملي عليه ما ينبغي أن يسير فيه على طريقة الانتقام والثأر رغم أن الزمان غير الزمان والتاريخ قليلا ما يكرر نفسه ولكن هذا قدرنا مع خصوم الحق "4.
حول حرية الرأي قال الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله: "لا بد أن تعرف أن هناك فرقًا بين حرية الرأي والإبداع، وبين سب الدين والشريعة أو الاستهزاء بما هو معلوم من الدين بالضرورة أو حتى بغير الضرورة.
وبين هذا وذاك وبين الذين يروجون للفاحشة في أعمال سموها فنية وهي تخريبية، لذلك أنا لا أجد حرجًا مطلقًا في الدفاع عن الثوابت الدينية بكل ما أملك حتى وإن وصفني العلمانيون بأنني أعادي الحرية، فلم يقل أحد أن الحرية في الاعتداء على الدين"5
لقد توفي الدكتور عبد الصبور شاهين، ولم تكرمه الدولة المصرية رغم تجاوز الكتب التي ترجمها وألفها السبعين كتابا، لكنه لم يحفل بذلك، حيث قال في حديث قبل وفاته: "هذا الموضوع لا يشغل بالي، فالبرغم من مؤلفاتي الكثيرة، وتفرغي للعلم والدين ونضالي في سبيلهما طيلة 35 عامًا.
فأنا أفخر والحمد لله أني كنت ولا أزال من المجاهرين والمجاهدين في الحق، ومثلي لا يكرم ولا تطرق الجوائز بابه لأن باب التكريم معروف، وله ثمن رفضت أن أدفعه ففارقتني الجوائز إلى غيري ممن قبلوا دفع ثمن جوائزهم خنوعًا وموالاة للحكام..."6
عبد الصبور شاهين تراث زاخر ووصية غالية:
من مؤلفات الراحل عبد الصبور شاهين رحمه الله، دون ترجماته
كتاب "التحديات التي تواجه اللغة العربية" صدر عام 2002م.
كتاب "النهوض باللغة العربية في مختلف المراحل التعليمية" صدر عام 2001م.
كتاب "الإعلام في خدمة الدعوة الإسلامية" صدر في عام 2001م.
كتاب "قضية التدريس باللغة العربية في المعاهد العلمية" صدر عام 1996م.
كتاب "ماذا أعدت مصر لنفسها بعد أكثرمن زلزال" صدر عام 1996م.
كتاب "مصر في الإسلام" صدر عام 2000م.
كتاب "قصة أبو زيد، وأنصار العلمانية في جامعة القاهرة" صدر عام 1996م.
كتاب "العربية لغة العلوم والتقنية" صدر عام 1986م.
كتاب "العربية لغة العلوم" صدر عام 1983م.
كتاب "أثر القراءات في الأصوات والنحو العربي أبو عمرو بن العلاء" صدر عام 1987م.
كتاب "في علم اللغة العام" صدر عام 1984م.
كتاب "تعدد الزوجات دفاع عن الأمن الأخلاقي وحماية له من الزنا واللواط والسحاق" صدر عام 1997م.
كتاب "دستور الاخلاق في القرآن، دراسةمقارنة للأخلاق النظرية في القرآن، ملحق بها تصنيف للآيات العلمية"
كتاب "صحابيات حول الرسول" صلى الله عليه وسلم، صدر عام 1993م.
كتاب "الإسلام دين السلام: رسالة إلى الضمير الانساني" صدر عام 2004م.
كتاب "تاريخ القرآن: دفاع ضد هجمات الاستشراق" صدر عام 2006م.
هذا إلى جانب العديد من الكتب الأخرى، منها كتاب "أبونا آدم" الذي أثار جدلًا واسعًا وطبع عشرات المرات، ومفصل آيات القرآن، ترتيب معجمي، وتاريخ القرآن، وغيرها.
ونودع الدكتور عبد الصبور شاهين والقراء بهذه الوصية للفقيد الكبير الذي انضم لقائمة الخالدين في الفكر والثقافة، قائمة الأعلام والنبلاء، حيث قال:
"لقد أتى الله أهل القرآن ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين، وليفخر أهل القرآن بأن الله تعالى جعلهم على منبر الطهر، ومنجم الثراء، وكنز الحقيقة، وهو القرآن الكريم؛ ما دامو على خدمة القرآن وما أخلصوا في هذه الخدمة"7
--------------------------------------------------------------------------------
1 انظر هنا
2 نفس المصدر
3 نفس المصدر
4 من حوار مع " إسلاميات "
5 نفس المصدر
6 انظر هنا
7 انظر هنا
المصدر: موقع قصة الإسلام